ينتمي القديس إلى قرية (سيدوس) التي كانت تتبع قديما" (البصرة) في العراق. والده يدعى شمعون وأمه تدعى هيلانة، وكانا على درجة كبيرة من الثراء ومشهود لهما بالتقوى والإيمان والمحبة، يؤديان واجباتهما في إطعام الفقراء وكساء ذوي الفاقة والمحتاجين، وينفقان الأموال لتأسيس المشاريع الخيرية وبناء الأديرة والكنائس.
لم يرزقا ولدا"، وعندما طعنا في السن كادا أن يفقدا الأمل في الإنجاب، غير أنّ إيمانهما دفعهما للذهاب إلى تبريز قرب بحيرة (اورميا) في إيران للالتجاء إلى قدسية إحدى الأديار القريبة من جبل تبريز، وكان رئيس الدير يومئذ يدعى مار داود، وفي هذا الدير سكبا نفسيهما أمام الله بخشوع وتضرّعا طالبين أن يمنّ الله عليهما بطفل يسعدهما في حياتهما الزمنية، ويبعد اليأس عن نفسيهما بعد أن شاخ، كما طلبا من رئيس الدير من أجلهما ليلبّي الرب طلبهما. وبعد أن قاما بواجباتهما الدينية كاملة ودّعا رئيس الدير، وعادا إلى قريتهما(سيدوس) وكلهما ثقة وإيمان بأنّ الله سيهديهما ثمرة في شيخوختهما.
وبعد مدّة رزقهما الله طفلا" جميلا" في عام(530 م) وكانت فرحتهما كبيرة بهذا المولود الجديد لا تضاهيها إلاّ فرحة أليصابات بيوحنا المعمدان. وامتلأت جنبات الدار فرحا" وسرورا". واستحال يأسهما إلى ثقة وعزيمة ورجاء.
وفي غمرة هذه الأفراح توجّه الوالدان بصحبة العديد من الأقارب يحملان طفلهما إلى نفس الدير الذي قصداه سابقا" والقريب من جبل تبريز، تعبيرا" عن شكرهما لله تعالى الذي استجاب طلبتهما في هذا الدير.
وهناك وعلى يد رئيس الدير مار داود، نال الطفل سر العماد المقدّس، ودعي اسمه(داؤد) تيمنا" باسم رئيس الدير. وأقام والده حفلة كبرى دعا إليها الرهبان والزائرين، وكلهم بصوت واحد يرفعون الشكر لله الرب القدير، الذي استجاب طلبة الوالدين الشيخين. ويرجون أن يجعله الله ثمرة صالحة لخير والديه والكنيسة، والإنسانية جمعاء، وبعد أن قدّم الوالدان نذورهما قفلا راجعين بصحبة الأهل والأقارب إلى قريتهما.
ولم يأل والده جهدا" من الرعاية به، كيف لا وقد كان ثمرة الصوم والصلاة، ووليد النذور، شبه صموئيل الذي رزقه الله لحنّة بعد طول انتظار.
لم يكن والداه يناديانه باسم(داؤد) الذي أطلق عليه في العماد بل كانا يسميانه(دودو) تعبيرا" عن شدّة محبتهما ولأنّه كان أعزّ ما يملكانه في الدني، لا بل كان مصدر سعادتهما وفرحتهم، وثمّة من يعتقد بأن القديس هو الذي سمّى نفسه بهذا الاسم فيما بعد تواضعا" منه ومشبّها" نفسه بدودة، غير أننا نرى أن هذا الاعتقاد ضعيف ولا سند له، سيّما وإذا علمنا أن لغة والديه كانت الآرامية وهي اللغة السائدة آنذاك، وأن تسميته هذه لا تمتّ بصلة إلى اللغة الآرامية.
وما أن بلغ الصبي الخامسة من عمره حتى أدخله والده المدرسة ليتلقّى مبادئ العلوم والآداب، فظهرت عليه إمارات النجابة وعلامات الذكاء. أما تعامله مع زملائه فكان ينمّ عن الفضيلة والخلق الحسن، يصغي إلى معلميه ويتعلم منهم بحرص واجتهاد، كانت إشارات التفوّق والذكاء بادية على محيّاه، كما أن شكله كان يوحي بالعفة والطهارة، وأدرك معلّموه وزملاؤه - وهو في هذه السن المبكرة- بأن الله اختاره شبه النبي أرميا من البطن، وما أن بلغ أشدّه حتى عزم والداه أن يزوّجاه ليفرحا به. لكنه رفض بإصرار وعناد. لأن قلبه خفق حبا" بالرب يسوع، وهو لا يريد أن يملأ قلبه أي شيء آخر سوى محبة المسيح.
كان يعشق مطالعة الكتاب المقدس، يتمعّن في معاني القداسة التي تضمّنته، ويزداد معها برّا" وقداسة.
وظلّ والداه يلحّان عليه في طلب الزواج. غير أنهما غادرا الحياة الفانية دون أن تتحقق رغبتهم، وبعد ذلك أصبح الطريق مفتوحا" أمامه ليشرع في حياة الزهد والعبادة تلك التي كان يتمنّاها من قبل.
بعد وفاة والديه، وزّع القديس كل ما يملكه من أموال ومقتنى على الأديرة والفقراء والمعوزين عملا" بقول السيد المسيح: (إذا أردت أن تكون كاملا"، فاذهب وبع كل ما لك، وأعطه للمساكين فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني).
لم يتوان القديس، ولم يتأخّر لحظة واحدة، ولم ينظر إلى ورائه لكنّه صلّى بخشوع وحرارة وإيمان. ثم توجّه إلى ذلك الدير الذي اقتبل به سرّ العماد المقدّس، فاستقبله رئيس الدير بفرح وانشراح، وهناك، وعلى يد مار داود نذر النذور الرهبانية الأولى وتوشّح الاسكيم المقدّس، وانخرط في سلك الرهبانية، جنديا" شجاعا" في معسكر الرب، وحافظ على اسمه دودو، ومنذ اللحظات الأولى تجلّت فيه صفات الراهب المنتخب، وهي العفّة والطهارة والفقر الاختياري، كان مطيعا" لرؤسائه، متواضعا" في تعامله محبّا" للعلم شغوفا" بالمطالعة شيمته الحلم والصبر، ومع هذا كله فإنّ محيّاه كان يطفح بالفرح والبشاشة، ودودا" محبا" للجميع، فكان موضع إعجاب رئيس الدير والأخوة الرهبان.
بعد وفاة معلّمه رئيس الدير مار داود، يبدو أنّ الحياة لم تعد ترق له لأنه وجدها سهلة ليست فيها من الجهد والتعب ما يمكّنه من تذليل نفسه وترويضها على أعمال النسك والعبادة، لذلك قرّر أن يعيش منفردا" لوحده على قمّة جبل تبريز اقتداء" ببعض القديسين الذين زهدوا في الدنيا منعكفين إلى الكهوف والمغاور تعبّدا".
لقد اعتزل القديس مار دودو على جبل تبريز لوحده متفرّغا" لمناجاة ربّه. ولكنه هل اكتفى بهذا الانفراد؟ أبدا" بل أنّه ضاعف جهاده فصنع لنفسه قميصا" من حديد لإرهاق جسده والإمعان في تعذيبه، فكان حرّ الصيف يجعل من ذلك القميص مكواة تكوي جسمه، وكان برد الشتاء يحيلها أداة تلذع جلده. وبقي مدّة اثنتي عشرة سنة على هذه الحالة. وحيدا" يفترش الأرض ويلتحف السماء، يجوع فيقتات من أعشاب الأرض، يقوى على العطش أياما" مديدة، يعرّض نفسه لأخطار الليل ومخاوفه، هناك على الجبل بعيدا" عن العالم، يعيش وسط الحيوانات المفترسة والأفاعي الضارة، أراد أن يموت عن بهجة الدنيا ليحيا مع المسيح، أحبّ أن ينساه العالم ليعرفه المسيح، يا لها من عيشة خشنة وحياة صارمة، لا يقوى عليها إلاّ أولئك الذين وهبوا إرادة فولاذيّة صلبة لا تدنو إليها الرخاوة والضعف، هكذا تفعل القوّة الروحية، إنها تمحض صاحبها قوّة هائلة ليقوى على كل العالم.
كان القديس يشعر دائما" وأبدا" بأن روح الله لا تفارقه. هي معه في كل مراحل حياته، ترقب تقشّفه وتقرّبه إلى الله. فأرادت أن تكافئه عندما جاءته الملائكة تحمل له مائدة مفعمة بالطعام الروحيّ الشهيّ. فتناول القديس منها شاكرا" ربّه على هذه اللفتة الكريمة وشعر بأن الله معه ولم ينساه. لا بل شعر بأنّه أصبح رفيقا" للملائكة، يا لها من هبة مقدّسة أغدقها الله على عبده الأمين القديس ما دودو. وأغدقها أيضا" من قبله على القديس مار قومي.
أما رئيس الدير الذي خلف مار داؤد بعد وفاته، فقد شاهد رؤيا سماوية عجيبة، علم منها عن مكان تواجد القديس مار دودو، وهبّ على الفور من نومه مذعورا"، وهو يفكّر فيما رأى، وفي الصباح أعلن خبر الرؤيا للأخوة الرهبان في الدير، وطلب منهم مرافقته إلى الجبل حيث يقيم القديس مار دودو.
انطلق رئيس الدير والأخوة الرهبان ومعهم جرسا" ومبخرة إلى الجبل فبدؤوا بالبحث عنه، وبعد جهد ومشقّة التقوا به فعانقوه طويلا" وهم يذرفون الدموع السخيّة حبا" به بعد ذلك الفراق الطويل، لقد أشفق الرهبان على أخيهم وهو على تلك الحالة، فقد أصيب جسمه بالنحول والضعف، وظهرت على جلده التجعّدات، لأنه أمضى فترة طويلة يغالب الطبيعة، وكأنه في حرب معه، ثم طلبوا أن يعود معهم إلى الدير، ولم ينفع عناده وإصراره على البقاء هناك على الجبل، لأنّ الأخوة الرهبان وبإرادة واحدة أرغموه على العودة. فاضطر للقبول والإذعان، وما أن عاد إلى ديره حتى ارتفعت صلوات الشكر لله الذي أعاد ذلك القديس إلى الأخوة الرهبان الذين كانوا قد فقدوا الأمل من حياته بعد أن غاب عنهم /12/ عاما" متوالية.
غادر القديس الدير للمرة الثانية قاصدا" الديار المقدسة مشيا" على الأقدام، تدفعه قوّة هائلة وحب عارم لأن تكتحل عينه بمرأى الأماكن المقدسة التي تردد إليها الرب يسوع المسيح، وبعد أن تجشّم عناء السفر الطويل، وصل فلسطين فحجّ إلى المغارة التي ولد فيها السيد المسيح، وزار القبر المقدّس، وعليّة الأسرار حيث تناول الرب يسوع العشاء السري مع تلاميذه وتبارك القديس من طريق الآلام. وبعد أن أنهى زيارته للأماكن المقدسة توجّه نحو بريّة الاسقيط في مصر حيث زار الأديرة، وتبارك من الرهبان، ومن ذخائر القديسين هناك.
وبعد أن أتمّ كل هذه الفرائض لم يعد إلى ديره كما كان متوقعا" بل اتجه إلى واد يقع ضمن منطقة بازبدى. وهو من أصعب وديان العالم انحدارا". ويلقى سكان المنطقة هناك صعوبات جمّة أثناء النزول والصعود. ولشدّة انحداره وصعوبة السير فيه سمّي بوادي جهنّم.
تنقّل القديس ما بين اسفس وفندك لمدّة سبع سنوات عبر الوادي باتجاه قريتي تلستان وكنكي وكانت هذه الأخيرة محرومة من المياه الجوفية وتعتمد على مياه الأمطار، وبصلوات القديس تفجّرت المياه من صخرة هناك، وكانت هذه الأعجوبة وسيلة أدّت إلى اعتناق أهل القرية للمسيحية، فأنشأ لهم القديس كنيسة في القرية، وفي نهاية هذا التنقل المستمر استقرّ أخيرا" في أسفل الوادي الذي تطلّ عليه اسفس، ثمّ التحق به ابن خاله مار اسحق كما انضمّ إليه أربعون راهبا" ، حيث أنشؤوا كنيسة جميلة مع ملحقاتها.
وفي عام (575 م) وبعد أن رحل جاثليق المشرق المطران مار(آحودامه) دعت الحاجة إلى تعيين مطران خلفا" له، وبعد أن تمّ تنصيب البطريرك بطرس الثالث الرقيّ ، كان أمامه مسؤولية إيجاد خلف مناسب للجاثليق مار آحودامه الذي فتك به الملك كسرى انوشروان، لذا فقد بدأ البطريرك يضرع إلى ربّه ليرشده إلى اختيار العنصر الذي يصلح لأن يحمل أعباء هذه المسؤولية الجسيمة، ويسدّ الفراغ الذي أحدثه غياب مار آحودامه، وبينما هو في غمرة التفكير، أوحى الله إليه في الرؤي، بأنّ الراهب دودو يصلح لهذا المنصب، ودلّته الرؤيا عن مكانه في وادي جهنم القريب من اسفس في كورة بازبدى ، فشكر البطريرك العزّة الإلهية على هذه الرؤيا وأخذ يتأهّب للسفر ضارعا" إلى المولى لأن يصلح طريقه ويتمم مقصده.
توجّه البطريرك من أنطاكية مقرّ كرسيه الرسولي إلى أبرشيته الشرقية، ثم طلب إحضار الراهب دودو، وكان قد بلغ الستين من عمره، وبعد أن مثل القديس أمام بطريركه، عرض عليه البطريرك المهمّة التي جاء من أجلها مدفوعا" بالوحي الإلهي الذي أرشده إلى ذلك، وقال له البطريرك: يا بنيّ إنّ الروح القدس يدعوك للخروج من وادي جهنم لرعاية الآلاف من خرافه الناطقة في بلدة تكريت، أما القديس فإنّه إذ تهيّب من هذه المسؤولية، لم يذعن لطلب البطريرك في بادئ الأمر، غير أنه لم يستطع الإصرار على رفضه بعد أن سمع البطريرك يهدده بعقوبة الحرمان الكنسي القاطع، وما كان منه إلاّ أن يرضخ لهذا الأمر الروحي مسلّما" إرادته إلى المولى تعالى قائلا": لتكن مشيئتك يا رب.
وفي حفل روحي خاشع يرفع البطريرك الراهب دودو ويرقّيه إلى درجة الاسقفية باسم مار (غريغوريوس) ثمّ اصطحبه معه إلى تكريت مقر الأبرشية، وهناك خوّله الرئاسة الاسقفية على تكريت وتوابعها فكان الجاثليق الثاني بعد المرحوم مار آحودامه وكان خير خلف لخير سلف.
واستقبل أهالي تكريت اسقفهم الجديد استقبالا" حارا" نظير استقبال حابان التاجر الهندي لمار توما الرسول أما القديس فكان حزينا"، لا بسبب مسؤولياته الجديدة، بل لأنه حرم من حياة الوحدة والانفراد التي كان يسعد بها روحيّا". كما أنّه كان يحنّ إلى حياة التقشّّف الصارم الذي كان فرضه على نفسه، ويتوق إلى صومعته، وتلاميذه الرهبان الذين أمسوا لوحدهم بعيدا" عنه.
كانت حياة القديس، سلسلة من الجهاد المتواصل والعمل الدؤوب طوال سنيّ حياته التي استمرّت نحو ثمانين عاما" ،ومنذ ميعة صباه، انصرف إلى خدمة مولاه، مؤثرا" حياة الزهد والنسك على الحياة الدني، فقضى مدّة تزيد عن الثلاثين عاما"، يرعى كرسي الجثلقة في المشرق، زانه بكرم الأخلاق وحسن التصرّف والإدارة، بحيث تمكّن وفي فترة قصيرة من أن يرد للكنيسة عافيتها ويوصل سفينتها إلى ميناء السلام.
وبعد هذا الجهاد الطويل والعراك المرير، كان القديس قد أكمل سعيه فدعاه مولاه إليه ليريحه من عناء هذا العالم، وينقله إلى الخدور العلوية مسربلا" إياه وشاح المجد الأبدي ، ظافرا" له إكليل النصر الخالد، وليكون مع المسيح إلى الأبد. مصداقا" لما جاء في الإنجيل: (حيث أكون أن، فهناك يكون خادمي). وحلّت وفاته عام ( 609م )، وبإيعاز من الروح القدس، سرى نعيه إلى كل الأصقاع، فحضر حفل تأبينه1800 كاهن عدا الأساقفة، وعدد غفير من المشيّعين، حيث دامت الصلاة عليه أسبوعا" لم ينقطع خلاله سيل المؤمنين العارم من التوافد لإلقاء النظرة الأخيرة عليه وللتبرّك من جثمانه الطاهر.
ومع صلاة احتفالية مهيبة، ووسط دموع المؤمنين يوارى جثمان القديس في كاتدرائية تكريت المشادة على اسم القديس مار آحودامه والمسماة بالكنيسة الصفراء.
++++++++++++ +++++++++ +++++++++ ++++++